منهج الإسلام
جاء الإسلام ليحدث في الأرض إصلاحاً على كل المستويات وفي جميع المجالات.. فهو ليس ديناً يكتفي بالجانب الروحي أو العبادات فقط ، وإنما يتولى تنظيم كافة شئون الدنيا بنصوص وقواعد عامة ثابتة – في القرآن الكريم والسنة المطهرة – تاركاً التفاصيل والفرعيات لاجتهاد العلماء في كل عصر ومصر حسب الظروف .
وهذا الاجتهاد الفقهي العبقري تراكم به على مر العصور ما يمكن أن نسميه نظريات عامة ومناهج كلية تغطي كل شئون الفرد والمجتمع .. وإذا كان المجتهدون من فقهاء المسلمين في كل عصر قد وضعوا حلولاً وفتاوى فقهية تناسب ما يستجد من أمور في عصورهم، فإن هذا يأتي في إطار القاعدة العامة التي تسمح بالاجتهاد والقياس فيما لم يرد فيه نص بالقرآن أو السنة . وبالرجوع إلى نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة و كتب التفسير والفقه والسنن يمكن القول بيقين إن الإسلام العظيم قد أحدث إصلاحاً ثورياً غير مسبوق في مكافحة سرطان الرق الذي عمت به البلوى في مشارق الأرض ومغاربها قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم . هذا المنهج هو "التحرير" للعبيد كل العبيد تدريجياً وبخطوات هادئة ولكنها ثابتة . إنها خطة مدروسة ومحكمة وبالغة الدقة . وقبل أن نتناول هذه الخطة بالتفصيل علينا ان نرد على سؤال ملح يطرحه كل من لا علم له بالإسلام ، وهو : لماذا لم يحظر القرآن الرق جملة واحدة بآية قاطعة تحرر كل العبيد في كل العالم لحظة نزولها على الفور؟! للوهلة الأولى قد يظن البعض أن السائل محق، أو أنه كان على الإسلام أن يفعل هذا بضربة واحدة حاسمة تقضي على الاستعباد المنتشر في الأرض .. لكن العاقل المتأمل – والمنصف- سرعان ما يتضح له وجه الحقيقة .
نقول - وبالله التوفيق - أن الرق ظاهرة اجتماعية واقتصادية وفكرية بل "ونفسية" أيضاً .. ولمعالجة هذه الظاهرة لا مفر من النظر إليها من كل الجوانب لوضع أفضل السبل لمكافحتها .. فمن الناحية الفكرية كان لابد أولاً من تغيير النظرة الإجرامية – نظرية الاستعلاء على الآخر – الموجودة حتى الآن لدى كثير من الغربيين . والمثال الصارخ هم اليهود أعداء الله الذين يظنون أنهم شعب الله المختار، وأن الآخرين لم يخلقوا إلا ليكونوا عبيداً لهم !! .
فهل من المستطاع تغيير طريقة تفكير بل أسلوب حياة وتعامل الآخرين مع غيرهم بلمسة سحرية في لحظة واحدة ؟!
لقد كان الرومان والإغريق والفرس والهندوس واليهود والنصارى في كل العالم- كما قدمنا – كل أمة منهم تتعامل مع الآخرين من هذا المنظور ، هم السادة وغيرهم العبيد. فكان على الإسلام أن يصحح هذه المفاهيم الخاطئة أولاً كي تتغير بعدها أساليب التعامل مع الآخر، وتتحول الممارسات إلى الصواب والإعتدال،ثم يمكن بعد هذا الحديث عن التحرير. وذلك كله يحتاج إلى وقت ليؤتى ثماره المرجوة.
ومن الناحية الاجتماعية، فإن أي عالم بالاجتماع أو التاريخ أو حتى طبائع البشر يدرك تماماً أن إحداث تغيير جذري في المجتمع مثل إلغاء الرق أمر لا يمكن حدوثه في جيل واحد أو بضعة أجيال من عمر البشر .
لقد كان ربع سكان العالم من السادة ، وثلاثة أرباع البشر وقت بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم هم من الأرقاء المستعبدين . فهل كان مجرد نزول آية قاطعة تقول: "حرروا العبيد " كافياً لتحرير ثلاثة أرباع العالم حالاً ؟!! بالطبع هذا مستحيل ، ومن يزعم غير هذا فهو إما ساذج أو مكابر أو خيالي حالم لا صلة له بالواقع ولا علم له بالبشر . وهذا يقودنا إلى الجانب الاقتصادي في الأمر.. إذ أن الرق كان نشاطاً اقتصادياً واسع النطاق في كل أنحاء العالم .. فإذا أردنا تحرير ثلاثة أرباع الناس من الأقلية "المستغلة" فإن هذا يعنى ضرورة إيجاد وسائل لإعاشة "المحررين الجدد"، وهم أغلب السكان كما رأينا، وفرص عمل لملايين العتقاء ، ومساكن لإيوائهم بعد مغادرتهم لبيوت السادة السابقين، إذ ليس من العدل ولا المنطق ولا الواقع أن تطالب السادة الذين فقدوا مصدراً هاماً وأساسياً للدخل - هو ما يدره عليهم عمل أولئك العبيد – لا يعقل أن نطالبهم بالاستمرار في الإنفاق على هؤلاء وإعالتهم، وقد انتهت العلاقة أو السبب القانوني لذلك، فضلاً عما يلحق بالملّاك من خسائر اقتصادية فادحة بسبب هذا "التحرير" المفاجئ لعبيدهم . ولا مفر كذلك من تعويض هؤلاء عن هذه الخسائر، إما بمقابل مادي، أو على الأقل بجزاء معنوى – الجنَّة - يجعل نفوسهم تطيب بهذا العتق . وبالطبع فإن تدبير لوازم المعيشة المستقلة للمحررين ، وفرص عمل لهم ، وكذلك تدبير موارد لتعويض السادة السابقين ، كل ذلك يحتاج إلى وقت بلا خلاف .. ولعل أبلغ رد على من يتوهمون إمكانية إلغاء الرق بضربة واحدة حاسمة هو ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية .. فقد حاول الرئيس المصلح "أبراهام لنكولن" القضاء على الرق هناك بقانون حاسم فماذا كانت النتيجة ؟ اندلعت حرب أهلية طاحنة بين ولايات الشمال المطالبة بإلغاء الرق، والولايات الجنوبية داعمة الاستعباد، استمرت سنوات ، وهلك فيها الملايين من الفريقين، وتعرضت البلاد لخراب شامل. بل لقي لنكولن نفسه مصرعه بسبب محاولته إلغاء الرق ، فقد اغتاله أحد المجرمين البيض الذين يرفضون السماح بتحرير السود ومساواتهم بالسادة !! وبقيت التفرقة العنصرية بعده قروناً عديدة بل مازالت العبودية هناك في صور أخرى كما رأينا !! ونشير أيضاً إلى مئات الثورات الدموية الرهيبة التي اندلعت من جانب العبيد على مر العصور، احتجاجاً على القهر والإذلال وإهدار الآدمية ، وتطلب قمع هذه الثورات – من جانب السادة – أنهاراً من الدماء، وخسائر اقتصادية فادحة . فهل هذا الهلاك للحرث والنسل والخراب الشامل مما يُلام الإسلام على تجنبه ؟! إن هذه الجزئية في حد ذاتها هي من دلائل عظمة الإسلام، وأنه بالفعل من عند الله الحكيم العليم بما يصلح خلقه وما يناسبهم من تشريعات تحقق العدل والمساواة بين الجميع ، وفي ذات الوقت تضمن الأمن والاستقرار في المجتمع .
لقد جاء الإسلام لحقن الدماء وحفظ الدين والعرض والعقل والمال أيضاً . أما حكاية الثورات الدموية الحمراء - على الطريقة الشيوعية البائدة - وشعارات "للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق"، فهذا كله مما ترفضه العقول الذكية والطبائع السويّة فضلاً عن التشريعات السماوية . وعلى ذلك فالتدرج في التحرير على مراحل هو عين الحكمة والعدل . وهل يرضى عاقل بما اقترفته الشيوعية الدموية تلك من الفتك بعشرات الملايين من البشر في البلدان التي تسلّطت عليها – كما أشرنا – فضلاً عن الدمار الشامل لكل شيء؟؟ وتكفي نظرة على أحوال دول أوروبا الشرقية المتدهورة حتى الآن للتحقق من صحة ما نقول. وما حدث هو أن الشيوعية "استعبدت" الناس هناك حيناً من الدهر، فلما سقطت تسببت في الإيقاع بشعوب بلادها في أنواع جديدة من "الاستعباد"، ولكن "السادة الجدد" هم من "الغرب" هذه المرة!!! إنه استعباد اقتصادي وسياسي بل وجنسي أيضاً كما استعرضنا في فصل سابق (1) . فهل يلومون الإسلام الذي حَظَرَ كل هذا وحَرَّمَه تمامًا ؟!! .
وهناك عبارة موجزة خالدة لعمر بن عبد العزيز تلخص بالضبط التصرف السليم تجاه مشكلة كالرق . فقد كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما شابا صالحا يحث أباه العظيم على الإسراع بالقضاء على كافة المظالم التي وقعت قبل توليه الخلافة . فقال الخليفة العظيم : "يا بنى .. لو حملناهم على الحق جملة لتركوه جملة"(2) .. والمعنى الواضح هو أن أغلب الناس لا يتحملون التغيير المفاجئ، وخاصة إذا كان تغييراً اجتماعياً واقتصادياً هائلاً مثل إلغاء الرق وتحرير العبيد الذين كانوا أكثر من الأحرار عدداً في كل المجتمعات . ومن شأن التشريع الذي يفعل هذا بخطوة واحدة متسرعة أن يفشل فشلاً ذريعاً، وبالتالي يتسبب في تثبيت دعائم المظالم وليس القضاء عليها . ونشير هنا مرة أخرى إلى أن كل المعاهدات الدولية والقوانين المحلية في كل الدول قد فشلت حتى الآن في القضاء على الرق - كما رأينا - وما زال عشرات الملايين من الفقراء – خاصة النساء والأطفال – ينضمون سنوياً – إلى جيوش الضحايا المستضعفين في الأرض .. المسألة ليست نصوصاً تصدر فينتهي الرق . إذ لا جدوى من تغييرالنصوص إذا لم تصلح النفوس. واصلاح الأنفس هو بالضبط ما فعله الإسلام أولا. وبدون إصلاح القلوب والعقول تتحول النصوص إلى مجرد "حبر على ورق" لا يسمن ولا يغني من جوع .
وأما من الناحية النفسية، فإن السادة يحتاجون وقتاً لتغيير نظرتهم إلى العبيد ، وقبول الواقع الجديد بعد التحرير والتعامل معه بلا سخط أو تذمر. وكذلك يحتاج العبيد إلى وقت أيضاً للتكيف مع الواقع الجديد . يقول الأستاذ محمد قطب : "إن التحرير بإصدار مرسوم كما يتخيل البعض لم يكن ليحرر الرقيق ! والتجربة الأمريكية في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد إبراهام لنكولن خير شاهد لما نقول، فالعبيد الذين حررهم لنكولن – من الخارج – بالتشريع، لم يطيقوا الحرية، وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا، لأنهم - من الداخل - لم يكونوا قد تحرروا بعد" .
والمسألة على غرابتها ليست صعبة الفهم حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية. فالحياة عادة ، والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي تكيّف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية . والكيان النفسي للعبد يختلف عن الكيان النفسي للحر، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء، ولكن لأن حياته في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات، فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حد، وتضمر أجهزة المسئولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد ..
فالعبد يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده، فلا يكون عليه إلا الطاعة والتنفيذ . ولكنه لا يحسن شيئاً حين تقع مسئوليته على نفسه، ولو كان أبسط الأشياء، لا لأن جسمه يعجز عن القيام بها، ولا لأن فكره – في جميع الأحوال – يعجز عن فهمها ؛ ولكن لأن نفسه لا تطيق احتمال تبعاتها، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة، ومشكلات لا حل لها، فيفر منها إبقاء على نفسه من الأخطار!
ولعل الذين يمعنون النظر في الحياة المصرية – والشرقية – في العهود الأخيرة يدركون أثر هذه العبودية الخفية التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم . يدركونها في المشروعات المعطلة التي لا يعطّلها – في كثير من الأحيان – إلا الجبن عن مواجهة نتائجها! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها الحكومات حتى تستقدم خبيراً روسيا أو إنجليزياً أو أمريكياً .. إلخ ليحتمل عنها مسئولية المشروع ، ويصدر الإذن بالتنفيذ ، ونلاحظ الشلل المروع الذي يخيم على الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر، لأن أحداً من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما يأمره به "السيد" الموظف الكبير ، وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة "السيد" الوزير، لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن العمل، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل, وجهاز الطاعة عندهم متضخم، فهم أشبه شيء بالعبيد، وإن كانوا رسمياً من الأحرار! .
هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي يستعبده. وهو ناشئ في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال، ولكنه يستقل عنها، ويصبح شيئاً قائماً بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض، ثم يمد جذورًا خاصة به ويستقل عن الأصل . وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة بإلغاء الرق . بل ينبغي أن يُغَّير من الداخل، بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو آخر، وتنمّي الأجهزة الضامرة في نفس العبد، وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوّه الممسوخ ، وذلك ما صنعه الإسلام . فقد بدأ أولاً بالمعاملة الحسنة للرقيق . ولا شيء كحسن المعاملة يعيد توازن النفس المنحرفة، ويرد إليها اعتبارها، فتشعر بكيانها الإنساني، وكرامتها الذاتية، وحين ذلك تحس طعم الحرية فتتذوقه، ولا تنفر منه كما نفر عبيد أمريكا المحررون"(3) انتهى . وهكذا يتضح بكل جلاء أن التدرج واتباع خطة ذات مراحل زمنية ممتدة لعلاج الرق وتثبيت واقع التحرير الجديد هو أمر لا مفر منه ، اللهم إلا إذا كان الغرض الوحيد من المعارضة هنا هو فقط الشغب ومحاولة التشويش والتشويه المفتعل!!