قادة الجهاد ضد الصليبيين من السلاجقة
د. علي محمد الصلابي
من الحقائق المسلم بها في تاريخ الحركة الصليبية، أن حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين انبعثت لأول مرة في بلاد المشرق الإسلامي من منطقة الجزيرة، وهي تقع بين دجلة والفرات، ومجاورة لبلاد الشام وتشتمل على ديار مُضر وديار بكر، وسميت "الجزيرة" لوقوعها بين نهري دجلة والفرات، وتمتاز منطقة الجزيرة بأنها صحية الهواء جيدة الريع والنماء، واسعة الخيرات، بها مدن جليلة وحصون منيعة وقلاع كثيرة [1] ، ومن الأسباب التي جعلت حركة المقاومة تنبعث من منطقة الجزيرة:
- إن منطقة الجزيرة أول أقطار المسلمين في المشرق الإسلامي التي اكتوت بنار الخطر الصليبي عندما استولى الصليبيون على "الرها" وتأسست بها أولى الإمارات الصليبية سنة 490هـ/1097م، فأدرك السكان خطر توغل الصليبيين في بلادهم، مما بعث المسلمين على التفكير الجدي في المبادرة إلى مهاجمة الصليبيين.
- إن منطقة الجزيرة قد ظهرت شخصيتها منذ عصر صدر الإسلام بسبب مجاورتها لأطراف الدولة البيزنطية، مما نشأ عنه خطرا شديدا على المسلمين أيام الأمويين والعباسيين فأصبحت خط الدفاع الأول عن ثغور المسلمين ضد الروم، وبعد الغزو الصليبي أصبحت منطقة الجزيرة تواجه إمارة الرها الصليبية التي شكلت أكبر خطر على الخلافة العباسية في بغداد.
- شهدت منطقة الجزيرة خلال النصف الثاني من القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي دخول الأتراك السلاجقة إليها مع ما اشتهروا به من حبهم لتربية الخيول والمغامرة مع حماسهم للإسلام بسبب قرب عهدهم به، وانتمائهم للمذهب السني. وأمد السلاجقة التركمان منطقة الجزيرة بدماء جديدة شديدة التحمس إلى الجهاد في سبيل الله، بعكس القوى الإسلامية الأخرى في بلاد الشـرق الإسـلامي التي خبت جذوة الحماس الديني في نفوسها وخمدت روح القتال لديها [2].
- الثروات الضخمة والموارد الكبيرة التي حوتها منطقة الجزيرة بسبب توفر مصادر المياه، وخصوبة الأرض، وسعة الرقعة الزراعية وكثرة المراعي اللازمة للخيل والماشية، الأمر الذي مكنها من مد المجاهدين بمصدر لا ينفد من المؤن والعتاد. هذا فضلاً عن الحصانة الطبيعية التي تمتعت بها كبرى مدن وقلاع الجزيرة التي انطلقت منها حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين مثل الموصل وآمد وماردين وحصن كيفا وغيرها، إذ أن تلك المدن امتازت بحصانة جغرافية فريدة جعلت اقتحامها عنوة أمراً بالغ الصعوبة، وبالتالي أصبحت في مأمن من الهجمات الصليبية المضادة، ولا يستبعد أن يكون قد اختمر في نفوس زعماء حركة الجهاد بعث فكرة الجهاد الإسلامي لما يمثله وجود إمارة الرها الصليبية في منطقة الجزيرة من خطورة بالغة على مركزهم بالإضافة إلى خوفهم من تقدم الصليبيين جنوباً للقضاء على الخلافة العباسية في بغداد [3]. ومن هنا فلا غرو أن تنبعث فكرة الجهاد الإسلامي في منطقة الجزيرة بقصد انتزاع الرها من أيدي الصليبيين [4].
1- جهاد قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل: وقد اتخذت فكرة المقاومة الإسلامية مظهرها العملي منذ سنة 491ه/1097م حيث قام "قوام الدولة كربوقا" صاحب الموصل بجمع ما استطاع جمعه من العساكر بقصد منع أنطاكية من السقوط بيد الصليبيين ولكن كربوقا لم يلبث أن توقف في الطريق حيث حاصر الرها لمدة ثلاثة أسابيع فأعطى بذلك فرصة كبيرة للصليبيين جدوا فيها لفتح أنطاكية، وقد تم لهم ذلك، ولو أن كربوفا أنفذ إلى أنطاكية مباشرة لا سلمه ياغى سيان مدينة أنطاكية، وتغيرت ظروف المحاصرين [5] ولكن كربوقا رفع الحصار عن الرها حين سمع بسقوط أنطاكية بيد الصليبيين، وعبر الفرات إلى الشام وأقام بمرج دابق حيث اجتمع هناك دقاق بن تتش صاحب دمشق وظهير الدين طغتكين أتابك دقاق، وجناح الدولة حسين صاحب حمص، وأرسلان تاشى صاحب سنجار، وسقمان بن أرتق صاحب بيت المقدس، وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم في القدوة والكفاية على حد قول ابن الأثير[6].
وانضم الأمراء جميعاً تحت قيادة كربوغا وسار بهم صوب أنطاكية في سنة 491ه/1097م التي كانت قلعتها لا تزال في أيدي المسلمين، فاقتربوا منها وشددوا عليها الحصار حتى تغير موقف الصليبيين وساءت حالتهم، إذ وجدوا أنفسهم محاصرين من الداخل والخارج، فتعرضوا لأزمة قاسية بسبب قلة الغذاء مما اضطرهم إلى أكل الجيف وأوراق الشجر [7] ، ودفع ذلك الصليبيين إلى إرسال وفد إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من أنطاكية، غير أن كربوقا رفض طلبهم وقال لهم : لا تخرجون إلا بالسيف [8]، وهذا ما دفع أحد رجال الدين المسيحيين واسمه بطرس "بورشلميوا" إلى اختلاق قصة الحربة المقدسة التي أدت إلى دفع معنويات الصليبيين والتفافهم حول زعمائهم، فقويت نفوسهم على الاندفاع تجاه المسلمين والخروج من الباب جماعات متفرقة حتى تكامل خروجهم فزحفوا على المسلمين وهم في غاية من القوة والكثرة فكسروا المسلمين وفرقوا جموعهم [9]، وهكذا فشل كربوقا في قيادة التحالف الإسلامي الذي أراد من ورائه منع سقوط أنطاكية في أيدي الصليبيين سنة 491هـ/1097م .
وقد ذكر المؤرخون أسباب فشل كربوقا في منع سقوط أنطاكية في أيدي الصليبيين في الوقت الذي كان فيه الصليبيون قد وصلوا إلى درجة من الضعف والتدهور داخل أنطاكية ومن أهم هذه الأسباب:
- ما ذكره مؤرخ أعمال الفرنجة من أن كربوقا صاحب الموصل قد أضاع ثلاثة أسابيع في حصار الرها مما مكن الصليبيين من الاستيلاء على أنطاكية، والاحتياط بما عسى أن يطرأ لهم من هجوم مباغت سواء من المسلمين الذين كانوا داخل قلعة أنطاكية أو من إخوانهم في بلاد الشام وغيرها [10].
- عدم وجود تجانس بين قوات كربوقا التي تكونت من العرب والترك وغيرهم، ثم ما قام به رضوان صاحب دمشق من بث روح الشقاق بين العرب والترك.
- عدم وجود خطة عسكرية واضحة أمام كربوغا، ولعل أبرز ما يوضح ذلك هو عدم رغبة كربوقا في السماح لرجاله بتوجيه الضربة القاضية للصليبيين وهم يخرجون جماعات متفرقة من أنطاكية. وهذا يعود إلى أن كربوقا كان يخشى على ما يبدو من أنه إذا فعل ذلك فسوف لا يقضي إلا على مقدمة الصليبيين [11].
- سوء معاملة كربوقا لمن معه من الأمراء، كانت سبباً من أسباب هزيمته وفشله، فقد شرع بنوع من الاستعلاء عليهم: ظناً منه أنهم يقيمون معه على هذا الحال، مما أدى إلى استيائهم من تصرفاته[12] .
- ارتفاع الروح المعنوية عند الصليبيين بعد اختلاف قصة الحربة المقدسة، بالإضافة إلى ما قام به زعماء الصليبيين قبل وصول كربوقا إلى أنطاكية من مراسلة دقاق صاحب دمشق وإخباره أن مطامعهم لا تتعدى الاستيلاء على ما كان بيد الإمبراطور البيزنطي في شمال الشام [13].
لا يمنع هذا من القول بأن محاولة كربوقا منع أنطاكية من السقوط بيد الصليبيين كانت نقطة انطلاق في بعث فكرة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين وكشفت للصليبيين عن مدى قوة المسلمين في حالة اتحادهم، كما أنها رسمت الطريق الصحيح لمن أتى بعده من زعماء المسلمين الذين أخذوا على عواتقهم حمل لواء الجهاد الإسلامي ليكملوا المسيرة من بعده، وتتمثل هذه الحقيقة إذا علمنا أن عماد الدين زنكي قد عاش في كنف كربوقا بعد موت والده [14] على أن كربوقا صاحب الموصل قد وافته منيته عند مدينة خوى بأذربيجان سنة 495هـ/1102م أثناء النزاع بين السلطان بركياروق بن ملكشاه وأخوه محمد بن ملكشاه، فخلت الموصل من أحد الزعماء الذين لم يشغلهم النزاع القائم بين السلاجقة عن مواصلة العمل على بعث فكرة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين [15].
2- جهاد جكرمش صاحب الموصل وسقمان بن أرتق صاحب ماردين وديار بكر:
جعلت وفاة أتابك الموصل كربوغا الموقف مائعاً وأدت إلى إثارة الحرب الأهلية. ذلك أن كربوغا أوصى بالولاية من بعده إلى سُنقرجه، وهو أحد أمرائه، وأمر الأتراك بطاعته، لكن نازعه موسى التركماني نائبه في حصن كيفا، بعد أن استدعاه أعيان الموصل، واستطاع أن يقتل منافسه ويحكم الموصل بوصفه نائباً عن السلطان بركياروق [16]، واستغل شمس الدولة جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، فرصة الاضطرابات، ليتدخل في النزاعات الداخلية، فزحف إلى نصيبين واستولى عليها، فهرب موسى إلى الموصل وتحصَّن بها، وهناك حاصره جكرمش مدة طويلة واضطر موسى إلى الاستعانة بسقمان الأرتقي في ديار بكر، فعرض عليه إعطاءه حصن كيفا ومنحه عشرة آلاف دينار، مقابل مساعدته، قَبِل سقمان هذا العرض وقّدم له مساعدة عسكرية فاضطر جكرمش إلى فكَ الحصار عن الموصل ولما خرج موسى لاستقبال سقمان، قتله بعض غلمانه في الطريق فتشتَّت جيشه، وعاد سقمان مسرعاً إلى حصن كيفا، فاستولى عليه بينما تقدم جَكَرمش إلى الموصل ودخلها وسـط ترحيب سكانها [17] .
تولى جكرمش إمارة الموصل عام 495هـ - 500هـ/1101- 1106م وعقد تحالف مع سقمان بن أرتق أمير الأراتقة في ديار بكر، استهدف التصدي لتقدم الصليبيين شرقاً باتجاه قلب الجزيرة، إذ كان للانتصارات السريعة التي أحرزها الصليبيون، واعتزامهم الاستيلاء على حران الواقعة في مفرق الطرق إلى العراق والجزيرة والشام، مستغلين فرصة الصراع بين الأمراء المسلمين، فضلاً عما يعنيه الاستيلاء على حران من قطع الصلة بين المسلمين في بلاد فارس والعراق والجزيرة والشام، وإعطاء الصليبيين فرصة لمهاجمة الموصل، وتأمين الرها، والسيطرة على إقليم الجزيرة، وكان لهذه العوامل جميعاً الأثر الحاسم في تناسي كل من جكرمش وسقمان خلافاتهما القديمة، والعمـل سوية لإيقاف تقُّدم الصليبيين [18].
أ- معركة البليخ وانتصار المسلمين على الصليبيين "وتسمى معركة حران": أرسل كل من جكرمش وسقمان إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع لتلاقي أمر حّران. ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه " فأجاب كل منهما صاحبه، واجتمعا على الخابور عند رأس العين، حيث عززا تحالفهما وتوجها على رأس عشرة آلاف فارس من الترك والعرب والأكراد لمنازلة الرها قبل أن يتعرضا للهجوم، وعندما سمع بلدوين الثاني أمير الرها نبأ احتشادهم في رأس العين أرسل إلى جوسلين وبوهمند يستنجد بهما، واقترح عليهما أن يحَّولا وجهة الهجوم بأن يقوما بمحاولة لمنازلة حران، وبعد أن أبقى بلدوين حامية صغيرة في الرها اتخذ طريقه إلى حران على رأس جماعة صغيرة من الفرسان والأرمن، وانحاز إليه بالقرب من حران كل من جوسلين أمير تل باشر وبوهمند أمير أنطاكية، وابن أخته تانكرد، وبطريرك إنطاكية، وجيش ضم فرسان الصليبيين وأمراءهم عدداً كبيراً من الأرمن ورجال الدين، بلغ عدده نحو ثلاثة آلاف فارس، ونحو ثلاثة أمثال هذا العدد من الرجال، والواقع أن هذا الجيش يمثل القوة الضاربة الكاملة لدى صليبيين شمالي الشام، عدا حاميات الحصون، وعندما احتشد هذا الجيش أمام حران كان جكرمش وحليفه لا يزالان يزحفان نحو " الرها " [19].
كاد الصليبيون أن يستولوا على حران، بعد وقت قصير من فرض الحصار عليها، إلا أن الخلاف الذي نشب بين بلدوين بي بور، وبوهمند، وإصرار كل منهما على رفع رايته على المدينة بعد الاستيلاء عليها، ساعد على صمود حران، وأتاح للمسلمين فرصة التحرك لقتال الصليبيين قبل سقوط هذا الموقع بأيديهم، وتم اللقاء بين الطرفين على نهر البليخ في التاسع من شعبان، حيث أظهر المسلمون الهزيمة، فتبعهم الصليبيون نحواً من فرسحين، فأعـاد المسـلمون الكرة عليهم، وأبادوا معظم قواتهم [20] ، وغنموا مقادير كبيرة من الأموال والممتلكات [21] ، وكان بوهمند أمير إنطاكية وابن أخته تانكر، قد كمنَا خلف إحدى المرتفعات لينقضا على المسلمين من مؤخرتهم حين يشتد القتال، فلما خرجا شاهدا هزيمة رفاقهم ونهب معسكراتهم، فأقاما في أماكنهما إلى الليل، ومن ثم تسللاَّ هاربين، فتبعهما المسلمون وقتلوا وأسروا من أصحابهما عدداً كبيراً، بينما تمكّنا هما من الفرار إلى الرها. أما بلدوين وجوسلين فقد تم أسرهما. وكان بلدوين قد انهزم مع جماعة من قواده وخاضوا نهر البليخ، إلا أن الأوحال أعاقت تحُّركهم السريع، فلحقهم قائد تركماني من أصحاب سقمان وتمكن من أسرهم؛ حيث حمل بلدوين إلى سيده سقمان [22].
ب- الخلاف بين جكرمش وسقمان: وعندما رأى أصحاب جكرمش أنّ قوات سقمان قد استولت على حصة الأسد من غنائم الصليبيين قالوا لسيدهم : أي منزلة تكون لنا عند الناس وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحسنوا له اختطاف بلدوين، فأرسل جكرمش بعض أصحابه، حيث تمكنوا من اختطاف الأمير الصليبي من معسكر سقمان. فلما علم هذا بما حدث، وكان خلال ذلك غائباً عن مقره، شق عليه الأمر، وتهيأ أصحابه للقتال، إلا أنه ما لبث أن ردّهم وقال لهم: لا أوثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين[23] ، ومن ثمّ تقَّدم على رأس قواته، وأخذ سلاح الصليبيين وراياتهم، وألبس، أصحابه ملابسهم وأركبهم خيلهم وجعل يأتي حصون إقليم شبختان من ديار بكر، فيخرج الصليبيون منها، ظناً منهم أن أصحابهم قد انتصروا فيجابههم سقمان ويقضي عليهم ويقتحم حصونهم، وتمكن بذلك من وضع يده على عدد من حصون المنطقة، وقفل عائداً إلى مقر إمارته في ديار بكر[24] .
ج- هزيمة جكرمش: قرر جكرمش المضي في القتال بعد عودة حليفه، وقام باقتحام قلاع الصليبيين في إقليم شبختان الممتد إلى شرق الرها، ليحمي مؤخَّرته، ومن ثم واصل السير إلى الرها نفسها وإذ أدى تمهل الصليبيين من قبل إلى الإبقاء على حران بأيدي المسلمين، فقد أبقى الرها للمسيحيين ما حدث من تمهل المسلمين إذ توفر لتانكرد من الوقت ما يكفي لإصلاح وسائل الدفاع وبذلك استطاع أن يردَّ أول هجوم قام جكرمش، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى ما أظهره الأرمن والمحليون من الولاء والبسالة غير أن ما أحسن به تانكرد من ضغط شديد، حمله على المبادرة بالاستنجاد بيوهند، ومع أن هذا كان يواجه مشاكل عديدة، إلاَّ أنه رأى ألاَّ من جعل الأسبقية لدرء الخطر عن الرها، فنهض لمساندة ابن أخته، غير أنه عطله ما كانت عليه الطرق من أحوال سيئة. واستبَّد اليأس بتانكرد فأمر رجال الحامية بأن يتخذوا أماكنهم للهجوم قبل بزوغ الفجر، وتحت جنح الظلام انقَّض رجاله على الأتراك الذين استغرقوا في نومهم مطمئنين، واكتمل الانتصار الصليبي بوصول بوهمند، فهرب جكرمش مذعوراً، وخلف من ورائه معسكره الزاخر بالثروة فانتقم الفرنج من هزيمة حران، وتم احتفاظهم بالرها [25] وكان من بين الأسرى الذي وقعوا في يدي تانكرد أميرة سلجوقية من عقائل بيت جكرمش الذي بلغ من تقديره لهذه السيدة أنه بادر لافتدائها مقابل مبلغ كبير من المال 15ألف بيزنت، أو مبادلتها بالكونت بلدوين نفسه، وبلغت بيت المقدس أنباء هذا العرض، فأسرع الملك بلدوين بالكتابة إلى بوهمند بألاَّ يجعل هذه الفرصة تفلت حتى يتم إطلاق سراح بلدوين. غير أن بوهمند وتانكرد احتاجا إلى المال على حين أن عودة بلدوين سوف تخرج تانكرد من وظيفته الحالية - كمسئول على الرها - ليعود إلى إنطاكية ولذا ردَّا على رسالة الملك: أنه ليس من الدبلوماسية في شيء أن يظهرا لهفتهما الشديدة على قبول العرض، على حين أنهما إذا ترّددا في القبول ربما لجأ جكرمش إلى زيادة الفدية. غير أنه في تلك الأثناء تم اتفاقهما مع جكرمش على قبول عرضه النقدي، وبذلك بقي بلدوين في الأسر [26].
نتائج معركة البليخ أو حرّان
كانت لمعركة البليخ نتائج بالغة الأهمية على الصعيدين الإسلامي والصليبي، لعل أهمها :
- أوقفت تقدم الصليبيين وتوسعهم باتجاه الشرق على حساب المسلمين، وقضت على آمالهم في التقدم نحو العراق وإتمام سيطرتهم على إقليم الجزيرة.
- تلاشت أحلام بوهيموند في السيطرة على حلب، وتحويل إمارة إنطاكية إلى دولة كبيرة، وقضت على آمال الصليبيين بقطع الاتصال بين القوى الإسلامية في الشام والجزيرة وآسيا الصغرى عن طريق الاستيلاء على حلب.
- قرَّرت مصير إقليم الرها. ذلك أن هذه الإمارة تعرضت لكثير من المتاعب الداخلية التي أضعفتها وبخاصة من جانب الأرمن الذين سرعان ما أبدوا تذمراً من الحكم اللاتيني بفعل تعسف هؤلاء مع الكنسية الأرمينية، واضطهاد رجالها مما دفع الأرمن إلى الاتصال بالأتراك وأضحى احتمال سقوطها في أيدي المسلمين وشيكا [27] .
- أتاحت للمسلمين فرصة استعادة الأملاك التي خسروها في السابق، وضُمَّت إلى إمارة أنطاكية.
- أضحى تانكْرِد، بعد أسر بلدوين، وصياً على إمارة الرها، كما أصبح بوهيموند أقوى الأمراء الصليبيين في الشمال.
- أدَّت ظروف الانتصار إلى زيادة التقارب بين القوى الإسلامية والبيزنطيين ضد عدوهم المشترك وأوضح ابن القلانسي خطورة النتائج بقوله: وكان نصراً حسناً للمسلمين؛ لم يتهيأ مثله، وبه ضعفت نفوس الإفرنج، وقلَّت عدتهم، وفلَّت شوكتهم وشكتهم، وقويت نفوس المسلمين، وأرهقت عزائمهم في نصرة الدين، ومجاهدة الملحدين، وتباشر الناس بالنصر عليهم، وأيقنوا بالنكاية فيهم والإدالة منهم.
- حطَّمت أسطورة أن الصليبيين لا يقهرون [28].
- استغل الإمبراطور البيزنطي الكسيوس فرصة ضعف مركز بوهمند إثر تعّرضه للانتقاد بسبب عدم افتدائه لرفيقه بلدوين، فضلاً عن التزامه بالمعاهدات التي كان عقدها مع الإمبراطور الذي راح يشجع الانتفاضات التي قام بها سكان قليقية ضد حكامهم النورمان، كما أوعز إلى قواته بالاستيلاء على عدد من المدن والمواقع التي كان تانكرد قد استولى عليها من قبل، واشترك الأسطول البيزنطي في السيطرة على بعض المدن الساحلية بين اللاذقية وطرطوس، يضاف إلى ذلك أن البيزنطيين تمكنوا من استغلال قواعـدهم البحرية في قبرض لتقديم المساعدات لريموند الضجيلي - عدو بوهمند اللدود - الذي كان يسعى لتأسيس إمارة حول طرابلس تحاذي إنطاكية من الجنوب في الوقت الذي لم يتقـدم فيـه أحـد مـن القدس لنصرة بوهمند ومساعدته في هذه المحنة [29].
وهكذا قدر لجكرمش، بتحالفه مع سقمان، أن يلعب دوراً خطيراً في تاريخ الحروب الصليبية، وأن يقدم وحليفه للعالم الإسلامي، أول نصر حاسم على الصليبيين، فتح به الطريق لظهور قيادات وأحلاف إسلامية وجهت الضربات المتتالية للقوى الصليبية، تلك القيادات التي بدأت بمودود حاكم الموصل السلجوقي، وانتهت بصلاح الدين، عبر إيلغازي وبلك الأرتقيين، وآق سنقر البرسقي، ثم عماد الدين ونور الدين الزنكيين [30].
مواصلة جكرمش للجهاد
رغم بعض البوادر السلبية التي أعقبت انتصار المسلمين في البليخ فإن جكرمش ظل يطمح لتحقيق انتصارات أخرى في هذا الميدان، وبعد أقل من سنتين أتيح له ذلك عندما تلقى في أواخر عام 499ه - 1106م أمراً من السلطان محمد بالقيام بحملة جديدة لمهاجمة الصليبين، فاتصل بأمراء المنطقة وتمكن من تشكيل حلف يضم رضوان أمير حلب وإيلغازي الأرتقي أمير ماردين وألبي تمر تاش صاحب سنجار والأصبهذ صاوا أحد كبار أمراء فارس إلاَّ أن ما طرحه إيلغازي على الأمراء المذكورين، أعاق تنفيذ الخطة المقترحة؛ إذ طلب منهم أن يبدؤوا حملتهم ضد جكرمش بقصد الاستيلاء على الموصل لكسب رضا السلطان محمد الذي كان يخفي على حاكم الموصل بعض تصرفاته، فضلاً عن إمكانية الاستفادة المباشرة من ميزان الموصل وإمكانياتها المالية والعسكرية ضد الصليبيين فوافقه زملاؤه على ذلك ومضوا سوية لمهاجمة نصيبين التابعة لحاكم الموصل. إلا نواب جكرمش هناك نجحوا - بتوجيه من سيدهم في الموصل - في إثارة النزاع والكراهية بين رضوان وإيلغازي، فاغتنم رضوان فرصة إقامة وليمة أمام أسوار نصيبين وقام باختطاف إيلغازي وتكبيله واعتقاله، إلا أن أتباعه من التركمان تمكنوا من تخليصه، وقاموا بهجوم مباَغت على معسكر رضوان أرغمه على الإنسحاب والعودة إلى حلب وبذلك تمزق هذا التحالف قبل أن يخطو خطوة واحدة صوب هدفه الأساسي في قتال الصليبيين [31] ، إلا أن ذلك كله لم يثن جكرمش عن عزمه على مهاجمة أعدائه الحقيقيين، إذ إنه ما أن تمكن من إحباط مساعي الأمراء المتحالفين ضده حتى بادر بشن الهجوم على الرها، إلا أنه ما لبث أن عاد إلى الموصل ليواجه متاعب جديدة تجاه السلاجقة بعد أن نجح في التغلب على هجوم قامت به عساكر ريتشادر [سالرنو] الذي كان يحكم الرها آنذاك نيابة عن بلدوين المأسور.
ولم يمض وقت قصير على ذلك حتى تحرك قلج أرسلان بن سليمان، سلطان سلاجقة الروم، لمهاجمة الرها، فانتهز نواب جكرمش في حران الفرصة وأرسلوا إليه يستدعونه ليسلموا إليه البلد، فتقَّدم قلج أرسلان إلى هناك ودخل حران، وفرح به الناس لأجل جهاد الفرنج [32]، وأقام هناك أياماً اضطر بعدها للعـودة إلى بلـده بسبب مرض شديد ألّم به تاركاً في حران جماعة من أصحابه لحمايتها [33] ، ويبدو أن شخصية قلج أرسلان بدأت تطغى، بما تمتع به من قوة واستقلال ونفوذ، على شخصيات رفاقه من الأمراء المسلمين في المنطقة بسبب خلافاتهم المستمرة، وتطاحنهم الدائم من أجل تحقيق مكاسب إقليمية محدودة فضلاً عن أن المشاكل التي جابهت جكرمش في الموصل، وتدهور علاقته مع السلاجقة ما صرف اهتمامه كلية عن ساحة الجهاد ضد الصليبيين، الأمر الذي أدّى إلى أن يستقطب قلج أرسلان اهتمام نواب جكرمش في حران فاستدعوه وسلَّموه البلد، مما يفسر لنا - كذلك - ما حدث بعد قليل من استدعاء قلج أرسلان من قِبل أهالي الموصل كي يتولى حكمهم، إثر مقتل حاكمهم السابق جكرمش [34].
يتبع بمشيئة الله ..
ــــــــــــ
[1]الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي ص 123، نور الدين محمود والصليبيون، حسن حبشي ص 11.
[2]الإمارات الأرتقية في الشام والجزيرة ص 201.
[3]الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي ص 137.
[4]المصدر نفسه ص 138.
[5]المصدر نفسه ص 138.
[6]الكامل التاريخ (8/400).
[7]المصدر نفسه (8/400).
[8]الكامل في التاريخ (8/400).
[9]المصدر نفسه (8/400).
[10]تاريخ الحروب الصليبية (2/328).
[11]المصدر نفسه (2/350).
[12]الجهاد ضد الصليبيين ص 140.
[13]الجهاد ضد الصليبيين ص 140.
[14]الجهاد ضد الصليبيين ص 140.
[15]دول الإسلام للذهبي (2/250.
[16]تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 62.
[17]المصدر نفسه ص 63.
[18]المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 95 عماد الدين خليل.
[19]الحروب الصليبية وسمات (2/71-72) المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 96.
[20]المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 96.
[21]المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 96.
[22]المصدر نفسه ص 97.
[23]الكامل في التاريخ (8/466).
[24]المصدر نفسه (8/466) المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 97.
[25]احلروب الصليبية ص 98.
[26]المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 99.
[27]تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 65.
[28]المصدر نفسه ص 65.
[29]المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 100.
[30]المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 102.
[31]المصدر نفسه ص 103.
[32]المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 103.
[33]الكامل في التاريخ نقلاً من المقاومة الإسلامية ص 104.
[34]المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي ص 104.
ـــــــــ
المصدر : إسلام أون لاين