بلك بن بهرام.. قاهر الفرنجة وآسر الأمراء
د. علي محمد الصلابي
يستمر الحديث عن القادة والأمراء والقادة السلاجقة، الذين كان لهم السبق في مقاومة الاحتلال الصليبي، وفي هذه الحلقة نقوم بالتعريف بجهاد الأمير بلك بن بهرام ، والذي نجح في أسر اثنين من الأمراء الصليبيين، هما أمير الرها وأمير بيت المقدس.
- بلك بن بهرام بن أرتق: بلك بن بهرام صاحب قلعة (خرتبرت) استلم راية الجهاد بعد عمه "ايلغازي – صاحب ماردين" وكان خصماً عنيداً للصليبيين حيث تطلع للقضاء عليهم لا في منطقة الجزيرة فقط بل وفي بلاد الشام وقد استهل أعماله العسكرية أثناء مرض عمه نجم الدين ايلغازي في رجب سنة 516ه/1122م بحصار الرها، ولكنه لم يستطع النيل منها بعد فترة طويلة من الحصار، مما اضطره إلى الانسحاب عنها.
لذا رأى الصليبيون بالرها أنه لابد من الاستعانة بجوسلين صاحب الأطماع الكثيرة وخصم المسلمين العنيد، الذي كان وقتذاك مع بلدوين ملك بيت المقدس بالبيرة مستغلين في ذلك تفرق عساكر بلك بن بهرام بن ارتق عقب عودته من الرها، إلا أن بلك بن بهرام استطاع أن ينصب لجوسلين ومن معه من الصليبيين كميناً عند سروج بأرض موحلة ومشبعة بمياه الأمطار فلم تتمكن خيولهم من الإسراع بسبب هذا الوحل، في الوقت الذي سلط عليهم بلك ورجاله الذين لا يتجاوز عددهم أربعمائة فارس وابلاً من السهام فلم يفلت منهم إلا القليل، وأسر جوسلين وابن خالته جاليران صاحب البيرة في سنة 516ه/1122م.
وقد ترتب على هذا الانتصار الذي حققه بلك بن بهرام على الصليبيين ضياع قوة الصليبيين المعنوية في بلاد الشام وازدياد حماسة المسلمين وتطلعهم إلى الوثوب على الصليبيين من كل ناحية (1) ، وحاول بلك بن بهرام بن ارتق أن يحصل من جوسلين ومن معه من الصليبيين الذين وقعوا في الأسر على تنازل منهم على الرها، مقابل إطلاق سراحهم ولكنهم رفضوا قائلين: نحن والبلاد كالجمال، متى عقر جمل حول رحله إلى آخر والذي بأيدينا قد صار بيد غيرنا (2) عندها حمل بلك بن بهرام أسراه إلى قلعة خرتبرت ووكل بهم من يحرسهم وتوجه سنة 517ه/1123م إلى حصن كركر التابع لإمارة الرها بقصد الاستيلاء عليه(3) .
أدرك بلدوين ملك بيت المقدس الذي أصبح وصياً على الرها إضافة إلى وصايته على إنطاكية أن من واجبه التحرك لتخليص جوسلين من الأسر ومنع كركر من السقوط بيد بلك بن بهرام وإفهام المسلمين بأن قوة الصليبين لا زالت قوية باطشة وخرج بلدوين على رأس جيشه حتى وصل عند الضفة الشرقية لنهر سنجه أحد روافد الفرات تجاه معسكر بلك بن بهرام الذي كان قد رفع الحصار عن كركر وعاد لمواجهة بلدوين الثاني ملك بيت المقدس، ودار القتال بين الطرفين في التاسع عشر من شهر صفر سنة 517ه/1123م، وانهزم الصليبيون بالرغم من قلة قوات المسلمين، ولم تقف أهمية الوقعة عند حد انتصار بلك بن بهرام بل تعدته إلى أن بلدوين ملك بيت المقدس قد وقع في أسر بلك بن بهرام بالإضافة إلى استيلائه على حصن كركر.
وحمل بلك أسيره الجديد إلى خرتبرت وضمه إلى جوسلين ومن معه من زعماء الصليبيين وفرسانهم (4) . وهكذا خلت إمارات الصليبيين، الرها، وإنطاكية، ومملكة بيت المقدس من زعمائها الذابين عنها، مما أدى إلى اضطراب وضع الصليبيين في الجزيرة وبلاد الشام ولكن القوى الإسلامية في بلاد الشام لم تستطع وقتذاك أن تهتبل هذه الفرصة والانقضاض على إماراتهم والقضاء على شأفة الصليبيين (5).
- محاصرة الصليبيين لحلب: أما بلك بن بهرام بن أرتق فإنه بعد أن جمع أسراه في قلعة خرتبرت توجه إلى حران للاستيلاء عليها في ربيع الأول من سنة 517ه/1123م، بهدف التقوي بها، فتم له ذلك وكان بلك بن بهرام يطمع في الاستيلاء على حلب من سليمان بن عبد الجبار عقب استيلائه على حران لأنه كان يدرك أهمية حلب الإستراتيجية، وأنه لن يحقق آية نتيجة حاسمة على الصليبيين ما لم يضم حلب إلى إمارته كي تكون له قاعدة في بلاد الشام، ويستطيع من خلالها التحرك في ميدان فسيح، وليتفرغ لقتال الصليبيين (6) .
لذلك فرض بلك بن بهرام على حلب الحصار حتى اضطر من بها إلى تسليمها إليه في صباح يوم الثلاثاء غرة جمادى الأولى سنة 517ه/1123م (7). إلا أن بلك بن بهرام لم يستطع المضي قدماً في جهاد الصليبيين بالشام حيث وصله نبأ تمكن جوسلين من الفرار من الأسر بمعونة جماعة من الأرمن الذين كان بلك بن بهرام قد أحسن إليهم بخرتبرت، فعاد على وجه السرعة إلى خرتبرت في رجب من نفس السنة 517ه/1123م واستطاع إعادة الأمن بها ونقل الأسرى المتبقين فيها إلى حران بعد معاقبة الأرمن الذين كانوا بها (
. وأما جوسلين صاحب الرها الذي هرب من الأسر فقد استطاع تكوين جيش من صليبي بيت المقدس وإنطاكية، واتجه به صوب حلب وضيق على من بها من المسلمين، ولم يكتف بهذا، بل أقدم على نبش قبور الموتى من المسلمين في البلاد المحيطة بها وظل محاصراً لها حتى شهر رمضان من السنة نفسها 517ه/1123م ولما لم يستطع النيل منها عاد إلى تل باشر، على أن حلب لم تسلم من حصار الصليبيين بعد عودة جوسلين إلى تل باشر، بل تعرضت لحصار آخر من صليبي أنطاكية، أدى إلى قطع الصلة بينها وبين غيرها من البلاد الإسلامية في الشام، تلك البلاد التي كانت تزودها بالمؤن(9) .
ووجد بلك بن بهرام بن أرتق إنه لابد من الاستعانة بآقسقر البرسقي صاحب الموصل وبظهير الدين طغتكين صاحب دمشق لرفع الظلم عن أهل حلب ولإنزال ضربة بالصليبيين يستطيع بعدها بلك بن بهرام العودة إلى حلب وإقرار الأوضاع بها، فوصل إليه سنة 517ه/1123م كل من صاحب الموصل آقسنقر البرسقي وصاحب دمشق طغتكين على رأس قواتهما وعبرا بهما الفرات ونزلوا على عزاز، ولكن الصليبيين الذين كانوا قد تجمعوا بها فتمكنوا من طرد المسلمين، فعاد كل منهم إلى بلده، ودخل بلك بن بهرام حلب في سنة 518ه/1124م وتخلص من بعض المناوئين له وقضى على فوضى قطاع الطرق، وتزوج بإحدى بنات رضوان بن تتشى لتويثق صلته بالسلاجقة، واتخذ من حلب عاصمة له من بلاد الشام، وقاعدة انطلاق لتوجيه الضربات ضد الصليبيين.
ولم يكتف بهذا بل نقل إليها أسراه من حران واعتقلهم في قلعة حلب ويبدو أن ما قام به بلك بن بهرام من نقل أسراه إلى حلب إنما كان من أجل الاطمئنان عليهم من أية محاولة لإنقاذهم أثناء بعده عنهم، والدليل على ذلك أنه حين جهز فرقة عسكرية في صفر من سنة 518ه/1124م لقتال الصليبيين بعزاز، لم يخرج معهم خوفاً من أن يغدر به بعض سكان حلب المعارضين له ويطلقوا سراح أسراه (10).
- مقتل بلك بن بهرام: لم يمهل الأجل بلك بن بهرام وبينما كان يحاصر الفرنجة عند قلعة منيح وافته المنية بسهم طائش أصابه فقتله لا يدري من رماه، واضطرب عسكره، وتفرقوا وبمقتله فقد المسلمون رجلاً عظيماً أثبتت أعماله إنه زعيم وقائد حاول جمع كلمة المسلمين في الشام والجزيرة ضد الصليبيين، ويمكن القول إنه بمقتل بلك بن بهرام سنة 518ه/1124م انتهت مرحلة قيادة الأراتقه لحركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، على الرغم من أن حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي قد استطاع الاستيلاء على حلب عقب مقتل بلك بن بهرام إلا أن حلب لم تتمتع في أيامه بأوضاع مستقرة، بل فسدت أحوالها وضعف أمر المسلمين بها حيث، ألهاه الصبى واللعب عن التشمير والجد والنظر في أمور الملك.
ولم يقف حسام الدين عند هذا الحد من الخمول وعدم المبالاة بجهاد الصليبيين، بل قبل وساطة أبي العساكر سلطان بن منقذ صاحب شيزر في إطلاق سراح بلدوين ملك بيت المقدس، الذي كان في أسر بلك بن بهرام (11) ، الأمر الذي أدى إلى ازدياد حماس الصليبيين في النيل من المسلمين، وهذا بالطبع كان له أثر كبير في تصدي الصليبيين بصلابة لحركة بعث فكرة الجهاد الإسلامي في المرحلة التالية التي قادها كل من آقسنقر البرسقي صاحب الموصل وظهير الدين صاحب دمشق (12).
يتبع بمشيئة الله ..
-------------------
(1) نور الدين محمود والصليبييون حسن حبشي ص 20.
(2) الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي ص 160 .
(3) زبدة الحلب (2/206) الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي ص 160.
(4) نور الدين محمود والصليبيون ص 20.
(5) الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي ص 160.
(6) الإمارات الأرتقية ص 268.
(7) الكامل في التاريخ (8/632 ، 633).
(
الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي ص 161.
(9) المصدر نفسه ص 161.
(10) زبدة الحلب (2/216 – 217) الجهاد ضد الصليبيين ص 164.
(11) الجهاد ضد الصليبيين ص 162،163.
(12) المصدر نفسه ص 163.
ـــــــــ
المصدر : إسلام أون لاين